تحكي لنا هذه الرواية عن أكثر سيناريوهات الأمومة إيلامًا على الإطلاق، ذلك الذي تولد منه تحذيرات نُعلّقها أقراطًا في الآذان: "لا تتكلم مع الغرباء، ولا تأخذ منهم طعامًا أو شرابًا، خصوصًا الشوكولا، ولا تذهب معهم إلى أي مكان". مع الكثير من القصص المرعبة التي تجعلنا نصوّر الغريب وحشًا بعين واحدة وأنياب حادة.
لكن، كيف يمكن لطفل في السادسة من عمره أن يستدرك ما حفظه لحظة فراقه عن والديه،في خضم بركان بشري من الحجاج بثيابهم البيضاء.
أفلت مشاري من يد أمه في لحظة طواف حول الكعبة — توقفت عند أعتابها حيوات ومصائر، وأخذت بالقلوب نحو الحناجر. فما عاد شيء كما كان. لقد اختفى الولد.
سرقته امرأة بقلب ميت، تصل الخير كله إلى الشر كله. تلك التي تحمل أطفالًا ببشرة غامقة، تصيبهم بإعاقات أبدية، ثم تبيعهم إلى من لهم في تجارتهم هوى. لكن مشاري كان مختلفًا. صيدًا عظيمًا يدرُّ نعمًا كثيرة على تلك الشياطين المنسية عمدًا في بقاع الأرض.
كيف تُنسى لطخة العار على جبين البشرية؟ بسيطة. لا تضعها في حقل رؤيتك. امسحها واشتغل بأشياء أخرى قد لا تضاهيها قيمة، ولكن لا بأس بذلك. فمن يمتلك الوقت والطاقة أصلاً ليدخل في متاهات كهذه؟ ليسوا "هم"، طبعًا.
لكن أصحاب البلاء — فيصل، سمية، وسعود — تاهوا وسط خرائط أربكت أرواحهم، وخلقت في أنفسهم علامات استفهام لم تراودهم من قبل. إذ أن الإنسان يحتاج إلى ماراثون طويل، يتسابق فيه مع الحياة حتى يصل لاهثًا، منقطع الأنفاس، إلى شفا حفرة تتراقص فيها ألسنة النار، لتسأله: "هل أنت حقًا مؤمن بالله؟".
يقال إن البلاءات تشحذ فينا هممًا لم نكن لنعرفها في أوقات الرخاء، وأن الشدة تبني في قلوبنا جبالًا من الصبر — أو تهدمها. لكني أعتقد أنها تكشف الحقيقة التي نسيناها منذ أن وجدنا في هذه الدنيا. لقد اخترت ما أنت عليه منذ البداية. ثم صنعت لنفسك قناعًا مريحًا يتناسب مع مكانك وزمانك، عن غير قصد، لأنك لست إلا جاهلًا بنفسك.
لقد كان مشاري الذبح العظيم الذي يفدي مسار الشخصيات الثلاث — صعودها، هبوطها، أو مراوحتها في مكانها. صعدت سمية بإيمانها نحو التسليم المطلق لقضاء الله وقدره، وصارت ترى رحمته في أحلك المواقف وأشدها: "وقفت مشدودة الجذع، مثل وتر، مأخوذة بمغيب الشمس تلهج، عرفت، عرفت. أخذت تقلب عينيها في السماء وشعرت، على نحو غامض، بأنها هنا، على قمة جبل الرحمة، تراه ويراها، كما يرى العالم كله متجليا في بهاء المكان، في أصغر حبة رمل وفي أبعد سحابة.ولثانية، ثانية واحدة فقط، نسيت كل شيء، الزوج، الولد، الألم، الألم، الألم. كأنها تتلاشى إلى ذرات غبارية تتبدد في الفضاء. كأنها في كل مكان، في الأرض والجبل والشمس التي تغيب.وعرفت بأن المرء إذا تفتت، سيتفتت معه ألمه، وإذا تكتل، سيتكتل معه ألمه".
أما فيصل، فقد هبط نحو هاوية الشك، ووقع في براثن اليأس مستسلمًا دونما أي رغبة في الوقوف مجددًا. لقد أكد مرارا وتكرارا في محادثاته مع أخيه سعود أن الله تركه ولا يقدم له ما يحتاجه من المساعدة في ظروفه المفروضة عليه: "أنا لا أستطيع أن أرى ما تراه سمية، لقد خلتني مؤمنا طوال عمري،ولكن الآن.."
في حين أن سعود كان الأصدق بينهم. لم تغيّره الحوادث إلا قليلاً في حاجته للاتصال بقدرة غيبية تمده بالراحة، فكانت الصلاة. يقول سعود لأخيه فيصل: "الأمر لا يعود إليك، جاهزيتك لا تغير من حقيقة الأمر. سواء كنت مستعدا، أو غير مستعد، سوف يدهسك العالم بأظلافه ويسحقك. السؤال هو، كيف تستعد لحقيقة أن ولدك إما أن يكون قد مات، أو على وشك؟"
لقد أخذ كل من فيصل وسمية أطراف الأماكن المتقابلة، ذهبوا بعيدًا جدًا، كلٌّ منهم في جهة. ولم يبق أمام مشاري سوى سعود، الشرطي الطيب كما وصفه فيصل. بالمناسبة، أعتقد أن هاتين الشخصيتين تستحقان رواية منفصلة تخبرنا عما حدث بعد كل ذلك.
في النهاية، تعلّمنا هذه الرواية أن كل واحد فينا هو عالم بأكمله، يعيش رحلته الخاصة جدًا، بكل ما فيها، من تحليق وهبوط، شك وإيمان، أمل ويأس، عقل وعاطفة. وما علينا سوى أن نعيش حاضرنا متيقنين أن الرجعى إليه حتمية، لأننا - ومهما بلغت الصعاب، و تعالت الضحكات - منه خلقنا، وإليه سنعود.